“ثلاث سنوات دراسة أم ساعتان اختبار؟ قراءة في جدل الانتقاء المباشر للماستر”

المصطفى قريشي استاذ القانون بالكلية متعددة التخصصات الناظور
كيف يمكن أن يُختزل مسار جامعي كامل امتد لثلاث سنوات من الجهد والتعب والامتحانات، في اختبار كتابي لا يتجاوز ساعتين؟ وهل فعلاً يشكل هذا الامتحان الفاصل معيارًا عادلًا لقياس كفاءة الطلبة وتمييز المجتهدين عن غيرهم؟ أم أن العودة إلى تقييم شامل لمسار الطالب الدراسي هو السبيل الأنجع لضمان عدالة الولوج إلى الماستر؟
هذا هو جوهر النقاش الدائر اليوم حول قرار وزارة التعليم العالي القاضي باعتماد نظام الانتقاء المباشر لولوج سلك الماستر ابتداءً من الموسم الجامعي 2025/2026. خطوةٌ جريئة، تخلّت بموجبها الوزارة عن نظام المباريات الكتابية والشفوية، لتجعل من المعدلات الأكاديمية والملفات الجامعية مرجعًا حصريًا لتحديد لائحة المقبولين.
وبين مؤيد يرى في القرار إعادة الاعتبار لمسار الإجازة، وتحقيقا للشفافية والمصداقية في الانتقاء، ومعارض يحذر من تضارب معايير التنقيط بين الكليات وضياع مبدأ تكافؤ الفرص، يجد الطالب المغربي نفسه أمام جدل عميق يطرح سؤالًا أكبر: هل نحن بصدد إصلاح حقيقي للجامعة، أم أمام حلٍّ ترقيعي يُخفي أزمة أعمق في بنيتها التكوينية والتقييمية؟
المقال الآتي يحاول تفكيك هذا الجدل عبر ثلاث مستويات:
- أولًا: تحليل المعايير الجديدة للانتقاء ومكامن القوة والضعف فيها.
- ثانيًا: إبراز إشكالية تكافؤ الفرص داخل الجامعة المغربية بين اختلاف الصرامة والليونة في التنقيط.
- ثالثًا: تقديم مقترحات عملية قد تجعل من الانتقاء المباشر وسيلة أكثر إنصافًا وشفافية، بدل أن يتحول إلى آلية إقصاء جديدة.
فهل يُنصف الانتقاء المباشر الطالب الذي اجتهد طيلة سنوات الإجازة؟ أم أن غياب إصلاح شامل سيجعل القرار مجرد خطوة شكلية لا تُغيّر من واقع التعليم العالي شيئًا؟
أصدر وزير التعليم العالي قراراً يقضي باعتماد نظام الانتقاء المباشر لولوج سلك الماستر ابتداءً من الموسم الجامعي 2025/2026، دون الحاجة إلى مباريات كتابية أو شفوية.
خطوةٌ اعتُبرت من طرف البعض محاولةً لترسيخ الشفافية وتبسيط المساطر، لكنها في المقابل أثارت جدلاً واسعاً بين الطلبة والفاعلين الجامعيين حول مدى عدالتها وقدرتها على ضمان تكافؤ الفرص.
أولا ملاحظة على مستوى الصياغة الواردة في دفتر الضوابط البيداغوجية السابق والحالي:
شروط الولوج للماستر سابقا كانت بالصيغة التالية: يتم الانتقاء الأول للمترشحين بعد دراسة ملفات الترشح بناء على معايير القبول المحددة في الملف الوصفي للمسلك.
وعلى إثر عملية الانتقاء الأولي يتم الانتقاء النهائي للمترشحين بناء على اختبار كتابي إضافة لأي طريقة أخرى محددة…
شروط الولوج الجديدة جاءت بالصيغة التالية: يتم ولوج تكوينات الماستر عن طريق الانتقاء بعد دراسة ملفات الترشيح بناء على معايير القبول المحددة في الملف الوصفي للمسلك المعتمد.
مقارنة بسيطة تبين أنه سابقا كان يسمى الانتقاء الأولي أي أن بعده عمليات أخرى.
حاليا يسمى الانتقاء فقط ما يدل على أنه نهائي ليس بعده أي اجراء لا كتابي ولا شفوي.
سابقا تحدث عن اختيار حسب الملف ثم المباراة الكتابية او او إضافة طرق أخرى.
حاليا تحدث عن أن الانتقاء يتم بدراسة ملفات اعتماد على معايير المحددة. أي أنه لم يخرج او ينتقل لاجراء اخر أي أن الانتقاء يكون فقط بدراسة الملفات ولا شيء غيره.
ننتقل للمعايير الممكن اعتمادها.
ماهي المعايير التي يمكن اعتمادها في الانتقاء وهل تعتبر كافية لانتقاء الأجود والأفضل والمستحق؟
**المعايير الجديدة الممكن اعتمادها في الانتقاء بدل المباراة الكتابية والشفوية:
الانتقاء سيعتمد غالبا على مجموعة من الضوابط والمعايير الأكاديمية المتعددة وهذه المعايير يمكن أن تحدد نسبتها في الانتقاء وكيفية احتسابها من خلال جدول التنقيط لكل معيار ويمكن تلخيصها في:
1-المعدل العام للإجازة: المعيار الأول والأساسي لتقييم مسار الطالب، وغالبا يتم اعتماد الميزة في الحصول على الإجازة على الاٌقل بمعدل 12/20
2- عدد الميزات المحصل عليها في الفصول الستة: دلالة على التميز الأكاديمي المتواصل والتراكمي والمستمر.
3-النقط في المواد الأساسية المرتبطة بالتخصص:
مثال: في ماستر المنازعات او ماستر المهن القضائية وماستر الأعمال أو العقود، يُركز على مواد مثل المسطرة المدنية، المسطرة الجنائية، التنظيم القضائي، الحقوق العينية – المنازعات الإدارية … وغيرها من مواد التخصص.
ماستر في القانون العام مثلا الاداري والمالي او العلاقات الدولية وحدات النشاط الاداري المالية العامة المنازعات الاداري العلاقات الدولية وغيرها من المواد.

ويمكن أن تحتسب كل وحدة جزء من التقييم مثلا تخصص لك وحدة 10% من التقييم. أي أن الطالب الذي حصل مثلا فقط في وحدتين نقطة أعلى لديه نسبة 20٪ من نسبة الانتقاء وخكذا حساب باقي المعايير ونسبها.
قد يتم اعتماد عتبة (12 أو 14 فما فوق) كشرط لاحتساب الوحدة.
لكن طالب لم يحصل على أي معدل أعلى في أي وحدة من وحدات التخصص فكيف يمكن أن يقول أنه متمكن ويستحق الولوج للماستر رغم ذلك؟؟؟
4- المعدل في السداسيين الخامس والسادس: باعتبارهما فصلي التخصص مثلا بالنسبة لمسلك القانون العام والخاص. وبالتالي أغلب الطلبة في السداسي 5و6 تكون لهم معدلات مرتفعة ونقط جيدة وبالتالي إمكانية الولوج، وهذا المعيار تم الأخذ به لأنه يحدد تخصص الماستر.
5- مدة الحصول على الإجازة: الأفضلية لمن استكمل مساره في المدة القانونية مثلا ثلاث الى اربع سنوات كأقصى حد.
لأنه معاير مهم جدا للمجهود المبذول والجدية والالتزام، لأن الحصول على الإجازة في خمس أو ست سنوات تعني أن الطالب قد اجتاز بعض الوحدات أكثر من ست مرات ولم يتمكن من استيفائها وبالتالي لا يمكن مقارنته بمن استفاها في الفرصة الأولى.
6-كيفية استيفاء الفصول النهائية: هل تم النجاح في الدورة العادية أم بعد الاستدراكية.
وهناك معيار أخرى يمكن اعتمادها.
هذه المعايير تبدو، في ظاهرها، منطقية وتعكس التميز الأكاديمي، وتعطي اعتبارا للمسار الأكاديمي للطالب وكلما كانت معايير متعددة سمحت لعدد أكبر أن يكون ضمن الانتقاء غير أن تطبيقها يطرح إشكالات جوهرية.
⚖إشكالية تكافؤ الفرص:
قد يثير البعض أن الانتقاء عبر المعدل العام وغيرها من المعايير المرتبطة بالتقييم والتنقيط، يفتح الباب أمام نقاش حاد حول غياب الانسجام بين معايير التنقيط داخل الجامعات المغربية.
بعض الكليات معروفة بصرامتها في إعداد الامتحانات والتصحيح، ما ينعكس على معدلات الطلبة ويجعلها متدنية. في المقابل، توجد مؤسسات أخرى حيث يلاحظ نوع من الليونة، ما يسمح للطلبة بالحصول على نقط أعلى.
كما تثار مسألة الغش واستخدام وسائل أخرى للحصول على معدلات أعلى. وإثارة عدم تكافؤ فرص التحصيل والمنح والامكانيات المالية وغيرها من المبررات.
إذا كيف يمكن الحد من هذه الإشكاليات حتى لا تؤثر على تكافؤ الفرص ….؟؟
## مقترحات قد تجعل الانتقاء أخف الضررين والتقليل من مشكلات وتشكيات المباريات الكاتبية والشفوية، والحد من السلطة التقديرية الواسعة في الاختيار ومعايير تصحيح أوراق امتحان المباراة، لأن الإشكاليات والتشكيات كانت سابقا تثار بخصوص معايير التصحيح والنتائج النهائية.
وبالتالي يمكن تقديم عدد من المقترحات تساعد في جل الانتقاء المباشر أكثر ضمانا لتكافؤ الفرص وانتقاء الطلبة المستحقين:
1-أن يتم اعتماد معايير متعددة وليس معيار واحد مثلا المعدل العام فقط او سنوات الاجازة، بل اعتماد معايير كثيرة وبالتالي تقليص نسبة الطلبة الذين يمكن قد استعانوا بوسائل للغش وبالتالي لا يمكن أنهم استعملوا الغش في كل الوحدات وفي كل مراحل الدراسة.
2-وأن يخصص لكل معيار نسبة مائوية أي من يحصل على أعلى نسبة من كل المعايير يتم انتقاؤه. وبالتالي إعطى قيمة لمراحل الإجازة ثلاث سنوات من الدراسة والاجتهاد.
3- تخصيص نسبة (10% مثلاً) من المقاعد لطلبة خارج الكلية المحتضنة للماستر، بما يضمن تفادي مشكل معايير التقييم والتنقيط المختلفة بين الكليات والمؤسسات الجامعية المختلفة.
4-توحيد معايير التقييم أكاديمياً على المستوى الوطني، أو على الأقل ضبطها عبر أطر مرجعية مشتركة.
5-اعتماد مؤشرات نوعية إضافية: بحوث، مقالات علمية، توصيات الأساتذة، الأنشطة الأكاديمية… لا الاقتصار فقط على “الأرقام”.
لا شك أن اعتماد الانتقاء المباشر خطوة إجرائية ستُسهم في تجاوز بعض أعطاب نظام المباريات، لكنها تظل حلاً ظرفياً أكثر من كونها إصلاحاً هيكلياً.
فالرهان الحقيقي لا يكمن في “كيف ننتقي الطلبة”، بل في إعادة بناء المنظومة الجامعية على أسس عادلة وشفافة، قادرة على منح كل طالب فرصاً متساوية بصرف النظر عن مؤسسته أو ظروفه.
فبدون إصلاح بنيوي شامل، ستظل قرارات مثل هذه مجرد مسكنات لأزمة أعمق، بينما يظل الطالب المغربي في انتظار جامعة منصفة، تضع الجدارة الحقيقية فوق كل اعتبار.
واستعير هنا مقولة للأستاذ سعيد حمديوي البرفيسور بأرقى الجامعات العالمية يقول:” إذا فشلت الجامعة في تقييم مستوى الطالب بعد ثلاث سنوات من الدراسة والامتحانات والتقييمات وتريد تقييم الطالب في مباراة لمدة ساعتين فاعلم أن المنظومة داخل الجامعة فاشلة ويجب إعادة النظر فيها بشكل جذري”.
إنّ قرار الانتقاء المباشر لولوج الماستر لا يمكن قراءته فقط كإجراء إداري يهدف إلى تقليص النزاعات المرتبطة بالامتحانات الكتابية والشفوية، بل ينبغي النظر إليه كمرآة تعكس عمق أزمة الجامعة المغربية.
فالمشكل لم يكن يوماً في “كيف ننتقي” فقط، بل في ما إذا كانت منظومتنا قادرة فعلاً على إنتاج معايير موضوعية وعادلة لقياس الكفاءة والجدارة.
إنّ الاقتصار على المعدلات والملفات قد يبدو خطوة في اتجاه الشفافية، لكنه يظل حلاً تقنياً محدود الأفق إذا لم يُدعَّم بإصلاحات جذرية تعالج تفاوت معايير التنقيط بين الجامعات، وتضع حدّاً لظواهر الغش، وتربط بين التكوين الجامعي وحاجيات المجتمع وسوق الشغل.
فالجامعة التي تفشل في تكوين طالبها وتقييمه بعد ثلاث سنوات كاملة من الامتحانات والفصول، ثم تبحث له عن مباراة ساعتين لتصنع الفارق، هي جامعة تعترف ضمناً بعجزها. والجامعة التي تكتفي بالانتقاء العددي دون إصلاح بنيوي، إنما تؤجل انفجار أزمات أكبر.
لذلك، يبقى السؤال الأهم: هل نحن أمام إصلاح يعيد الاعتبار للجدارة والاستحقاق، أم أمام مسكّن ظرفي يجمّل أعطاباً أعمق؟.
الجواب لن يُحسم في لوائح الناجحين اليوم، بل في صورة الجامعة المغربية غداً: هل ستكون مؤسسة عادلة تصنع الكفاءات وتكافئ المجتهدين، أم مجرد بوابة إدارية أخرى تعيد إنتاج الفوارق والخيبات؟