Neuralink و تقنية Telepathy : كيف يقترب العالم من التواصل المباشر بين العقول و الآلات

تيلي ناظور : نوفل سنوسي
عندما تصبح الأفكار لغة المستقبل
منذ فجر التاريخ، بقيت أفكار الإنسان حبيسة داخل دماغه، عصيّة على الآخرين مهما اقتربوا منه أو أحبوه.
ورغم أن الكلمات كانت دائمًا جسرًا للتواصل، إلا أنها غالبًا ما عجزت عن نقل ما يدور في الداخل بكل دقة وتعقيد.
لكن ماذا لو أصبح بالإمكان إرسال فكرة كما نرسل رسالة نصية؟ أو ترجمة شعور بلا صوت؟ أو تحريك آلة بمجرد الرغبة بذلك؟
هذا الخيال لم يعد بعيد المنال. فقد شهد العالم مؤخرًا قفزة علمية غير مسبوقة مع تجارب حقيقية لزراعة شرائح إلكترونية داخل الدماغ، قادرة على تحويل النوايا إلى أوامر مباشرة، وربط العقل البشري بالأجهزة الذكية.
Neuralink : مشروع جسر العقول
في عام 2016، أعلن إيلون ماسك عن مشروع Neuralink، الهادف إلى تطوير شريحة دماغية تمكّن الإنسان من التواصل المباشر مع الحواسيب، في محاولة لمجاراة التطور المتسارع للذكاء الاصطناعي.
ما بدأ كفكرة مثيرة، تحول إلى إنجازات حقيقية. ففي مطلع 2024، أعلنت Neuralink عن أول عملية ناجحة لزرع شريحة داخل دماغ إنسان، مكّنته من التحكم بمؤشر الحاسوب بمجرد التفكير، دون أي حركة عضلية.

ولم تكن Neuralink وحدها في هذا السباق، إذ أجرت جامعات ومؤسسات طبية مثل ستانفورد تجارب مماثلة، ساعدت مرضى الشلل على الكتابة والتواصل عبر إشارات الدماغ فقط.
كيف تعمل واجهة الدماغ و الحاسوب ( BCI ) ؟
الدماغ يعمل بلغة كهربائية، حيث تنتقل الأفكار والحركات عبر إشارات عصبية دقيقة.
تقنية BCI تعتمد على التقاط هذه الإشارات من مناطق محددة (مثل القشرة الحركية)، باستخدام أقطاب فائقة الدقة تُزرع على سطح الدماغ أو داخله، ثم إرسالها لاسلكيًا إلى حاسوب خارجي.
هناك، تتولى خوارزميات الذكاء الاصطناعي ترجمة هذه النبضات العصبية إلى أوامر رقمية، مثل تحريك مؤشر أو كتابة كلمة.
شريحة Telepathy : التفكير بدل اللمس
أحدث ابتكارات Neuralink هي شريحة Telepathy، المصممة لتمكين التحكم الكامل بالأجهزة الرقمية بمجرد التفكير.
تتميز شريحة Telepathy بأنها تعمل لاسلكيًا بالكامل، ما يمنح المستخدم حرية الحركة دون أي أسلاك أو توصيلات خارجية، كما يمكن شحنها بسهولة بطريقة مشابهة لشحن الهواتف الذكية.

وتتمتع بقدرة فائقة على التقاط مئات الإشارات العصبية في اللحظة نفسها، مما يتيح استجابة فورية وسلسة للأوامر العقلية.
ومع مرور الوقت، تتعلم خوارزمياتها المتقدمة تفسير نوايا المستخدم بدقة متزايدة، لتجعل التحكم بالأجهزة الرقمية أكثر طبيعية وموثوقية.
الهدف الأولي من Telepathy هو مساعدة مرضى الشلل على استعادة قدرتهم على التواصل، بينما تسعى الرؤية البعيدة إلى دمج الذكاء الاصطناعي مع الإدراك البشري فيما يُعرف بـ”التعايش العصبي”.
تجارب غيرت الواقع
في يناير 2024، شهد العالم إنجازًا طبيًا وتكنولوجيًا غير مسبوق، حيث نجحت شركة Neuralink في إجراء أول عملية زرع شريحة Telepathy لشاب مشلول يُدعى نولاند أربو، و تمكّن بعدها من تحريك مؤشر الماوس على شاشة الحاسوب بمجرد التفكير.
وفي عام 2025، تحقق نجاح جديد مع أودري كروز، التي عانت من شلل كامل لأكثر من 20 عامًا، إذ استطاعت الكتابة والرسم والتفاعل مع الألعاب الرقمية باستخدام عقلها فقط.

ومع تزايد الاهتمام العالمي، توسعت هذه التجارب إلى بريطانيا ضمن تعاون مع مستشفيات مرموقة مثل UCL وNewcastle، حيث يشارك خمسة مرضى مصابين بالشلل الكامل في تجارب سريرية متقدمة لاختبار فعالية وكفاءة الواجهة العصبية.
من علاج الشلل إلى ” البلوتوث العقلي “
قد تفتح هذه التقنية آفاقًا واسعة تتجاوز حدود العلاج الطبي، من أبرزها إمكانية التحكم بالأجهزة و السيارات و الروبوتات بمجرد التفكير، دون الحاجة إلى أي تدخل جسدي.
كما قد يصبح بالإمكان نقل المهارات و المعلومات مباشرة من دماغ إلى آخر، ما قد يُحدث ثورة في التعليم والتدريب.
والأكثر إثارة هو التواصل العقلي المباشر بين شخصين يمتلكان الشريحة، بما يتيح تبادل الأفكار والمشاعر دون نطق كلمة واحدة، مما قد يغيّر جذريًا مفهوم التواصل الإنساني.
بينما تركز المرحلة الحالية على التطبيقات الطبية، فإن المستقبل قد يشهد استخدامات تتجاوز العلاج، مثل:
كما قد تساهم هذه التقنية في علاج الاضطرابات النفسية والعصبية، عبر إعادة توصيل الشبكات الدماغية أو تحسين نشاطها لحظيًا.
تأملات في مستقبل العقول المتصلة
تثير هذه التكنولوجيا أسئلة جوهرية تمس جوهر الحرية الإنسانية والخصوصية الفكرية، أبرزها : من يملك الحق في قراءة أفكارنا ؟ وهل يمكن الوثوق بأن البيانات العصبية ستبقى آمنة بعيدًا عن الاستغلال التجاري أو السياسي ؟
كما يبرز سؤال لا يقل أهمية : كيف نضمن ألا تتحول هذه الابتكارات إلى أداة للتحكم بالعقول، أو للتلاعب بإدراك البشر وتوجيه قراراتهم؟

إنها تساؤلات تفرض نفسها بقوة، وتستلزم أطرًا قانونية وأخلاقية صارمة قبل أن يصبح الربط المباشر بين الدماغ والتكنولوجيا واقعًا واسع الانتشار.
مع تقدم تقنيات مثل Telepathy، لم يعد الحديث عن أدوات بين أيدينا، بل عن امتدادات لعقولنا. لكن تظل الأسئلة الكبرى مطروحة:
بين الأمل في علاج أمراض مستعصية والخوف من فقدان خصوصية الفكر، يقف العالم على أعتاب تحول وجودي، حيث قد تصبح الفكرة أسرع من الكلمة، ويغدو العقل ذاته لغة للتواصل.