فنٌّ مُسْتَهْلَك

نحن في زمنٍ نشعر فيه وكأننا نعرف كل شيء، أو بأنه يمكننا أن نتوقع أي شيء، أو بأن لنا القدرة المطلقة على تحليل الأمور وتفسيرها كما ينبغي حتى لو كان ذلك التفسير يوافق أهواءنا فحسب.

لكننا نؤمن بأهوائنا أكثر من أي أحد آخر. ونشعر بالفخر إذا ما أرضيناه فرضي عنا.

أي أنه قد أصبح من الصعب الآن، إذهال العقل البشري بأي عمل “فني” وخاصة تلك الفنون المكررة بابتذال.

والتي تكون أسسه أفكار قد استُهلكت حتى هلكت.

متعة الفن -لنأخذ المسرح على سبيل المثال- لا تكمن في اقتحامنا لعالمٍ يبدو في البداية مذهلا، لمجرد أنه سيشرّع الأبواب أمام أجسادنا وأحاسيسنا حتى يتسنى لها أن تتراقص بحرية ودون رادع أمام الجمهور.

متعة الفن -كالموسيقى مثلا- لا تتجلى في الموسيقى بقدر ما تتجلى في صناعة هذه الموسيقى.

يجب أن يتم العناية بكل تفاصيل الصناعة، لأنها قبل كل شيء، موجهة للعقل والإدراك.

كما أنها تسهم بشكل خاص في تكوين شخصية الإنسان، ومن فوائده أنه يغذي ملكة الفهم. فهم أنفسنا أولا وأخيرا، ف”أبعد شيء منا هو أنفسنا”.

“تكمن أعجوبة الفن وأعجوبة الثقافة في كونها تجعلنا أكثر إنسانية وأقل انغلاقا وأقل أنانية وأكثر تفهما.”

وإن كان ذلك في بعض الأحيان لا يستمر إلا خلال فترة العرض. لماذا الفن بهذه الأهمية؟ أتذكر أثناء طرحي لهذا التساؤل أفلاطون عندما لم يتردد في الإعلان عن طرد كل فنان لا يتقيد بفضائل الأخلاق من جمهوريته.

لماذا عمد إلى قول بأنه سيتعين عليه مراقبة عمل كل الفنانين حتى لا يتسنى لهم محاكاة الرذيلة والتهور والفضاعة… في كل ضروب تصويرهم؟ شخصيا، أعتبر الفن شكلا من أشكال التربية، ونهجا يمكن اتباعه لصناعة إنسان متزن.

خاصة وأن تأثيره عميق في النفوس، ويعمِّر في القلب والعقل طويلا.

“والمرحلة العمرية التي يشتد فيها التأثر بالفنون ويسهم فيها الإبداع إسهاما بارزا وقويا في تكوين شخصية الفرد هي مرحلة المراهقة” .

إذْ فيها ينفصل الإنسان عن ذاته الفردية ليندمج مع الجماع وفي هذا الصدد يقول إدغار موران: “إن الفترة الأكثر ملاءمة للفضائل المعرفية للجماليات والفنون، هي المراهقة.

لأنه سن البحث والثورات الذي تختمر فيه التطلعات بين شرنقة الطفولة، والاندماج في عالم الكبار، إلى حياة غير مفتعلة… إنه زمن البحث عن الحقائق”.

وأعتقد بأن أفلاطون قد فطن إلى هذا، وعرف بأن الفن الرذيل يمكن أن يفسد شخصية الناشئين في كنفه.

وخاصة أولئك الذين لم يكتمل بعد عندهم ذلك النضج الفكري الذي يحرضهم على النقد. (ولنا في جيلنا، خير مثال)نحن بحاجة (كما أرى الأمور، وخاصة في الأماكن التي أرتادها باستمرار لمشاهدة عروض مسرحية) إلى التجديد.

تجديد الفكرة، تجديد الرؤية، تجديد الذائقة الفنية والجمالية، تجديد الأسلوب، وتجديد نظرتنا الفلسفية للإبداع… وذلك أمر لا يتحقق إلا بالقراءة.

وبتنشيط تلك القدرة الإنسانية في التأمل.

إن موضوع الفن -غالبا- هو الإنسان، والقراءة هي أفضل بداية لمعرفة الإنسان. -أميمة مومن-

0
Show Comments (0) Hide Comments (0)
0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments

ابق على اطلاع!

اشترك لتحصل على أحدث المنشورات والأخبار والتحديثات في المدونة مباشرةً إلى صندوق الوارد الخاص بك.

بالضغط على زر التسجيل، فإنك تؤكد أنك قد قرأت سياسة الخصوصية وشروط الاستخدام و توافق عليها

0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x